تعتبر اللغة من أهمّ مقوّمات الشعوب. فهي ترجمان فكرها وعواطفها ومختلف مظاهر الحضارة والتمدّن فيها ولقد أدركت الأمم هذه الأهمية للغة، قديما وحديثا، فلم تتوان أيّ منها عن دراسة لغتها، والاهتمام بها، والحرص على نشرها وتعليمها للآخرين وتحبيبها إليهم.
ولقد بحث الإغريق في طبيعة اللغة ونشأتها، وتضافرت جهودهم في سبيل وضع قواعد للغتهم ابتداء من القرن الثاني قبل الميلاد. وشارك الفلاسفة اللغويين فكانت أبحاث أفلاطون في أصل الكلمة، ومشكلة المعنى كما درس العلاقة بين الأشياء والكلمات.
وتابعهم في ذلك الرومان، فدرسوا اللاتينية ولما كان الإغريق قد اقتصروا على دراسة لغتهم فقط، فقد فعل الرّومان مثلهم فلم يدرسوا قواعد أيّة لغة غير لاتينية، كأنّهم أرادوا أن تصبح هذه القواعد قوانين عامة تصلح لجميع اللغات، وهي نظرة سادت في أوروبا. وظلت آثارها إلى سنوات قليلة مضت قائمة إذ حاول اللغويّون هناك تطبيق قواعد اللغتين اليونانية واللاتينية على اللغات التي انحدرت منها غاضين النظر عن مسافة الخلف بين هذه اللغات الحديثة وتينك اللغتين الميتتين.
ولقد انصبّ اهتمام الإغريق والرومان على وضع قواعد لما يمكن أن يقابل اللغة الفصحى أو الأنموذجية، وهي لغة لم تكن متحدثة آنذاك وانشغلوا بوضع قواعد وضوابط ومعايير محدّدة لهذه اللغة سميت بالقواعد المعيارية وهي لا تتغير بمرور الزمن.
أما في الهند فقد كان للكتاب الذي ألفه "بانيني" في القرن الرّابع الميلادي، الأثر البارز في توضيح قواعد اللغة السنسكريتية مبيّنا فيه وواصفا النظام الصوتي والصرفي والنحوي لتلك اللغة وصفا دقيقا.
ولا تزال الأمم والشعوب في العصر الحديث تولي أهمية بالغة للحفاظ على لغاتها وتطويرها ونشرها، من ذلك إقدام الدولة الفرنسية على التدخّل في الواقع اللغوي عبر قوانين أصدرتها في سنوات 1490، 1510، 1539م وهذا الأخير هو الأشهر والمعروف بقانون "فيلي كوتري"، وقد سعت هذه القوانين إلى أبعاد اللاتينية والإسبانية والإيطالية من الساحة الفرنسية.
كما أبعدت لغات فرنسا ولهجاتها الأصلية التي تعدّ بالعشرات ومن بينها "اللغة الباسكية" و"اللغة الكاتالانية" و"اللغة البروطانية" إلى جانب ما يعتبره "كلود هاجيج" في كتابه "الفرنسيّة والقرون" بلهجات فرنسا: كاللهجة الفلامانيكية المنتمية إلى اللغة الهولندية واللهجة الألزاسية المنتمية إلى اللغة الألمانية واللهجة الكورسيكية المنتمية إلى اللغة الإيطالية.
وقد قامت فرنسا بواسطة قانون (توبون) سنة 1994 بمنع استعمال اللغات الأجنبية خصوصا الأنجليزية في كل شيء بما في ذلك الإشهار. ووصل هذا القانون قمته عندما أراد (توبون) وزير الفرنكفونية إزالة كلمات انجليزية مترسخة في القاموس اللغوي منذ قرون.
وفي العصر الحديث أدركت المجتمعات الراقية أهمية اللغة في حياتها وحياة الشعوب التي تريد غزوها وبسط الهيمنة عليها فأخذت تنفق ملايين الدولارات من اجل تصنيع الثقافة بلغتها وتصنيعها وتصديرها إلى جميع أصقاع العالم تصرف بها وجوه الناس إليها وتغزوهم في عقر دارهم عن طريق القنوات المرئية والإذاعات المسموعة والمجلات والكتب والصحف وغيرها من وسائل الاتصال... تفرض عليهم -من حيث يشعرون او لا يشعرون- نمط حياتهم وطريقة عيشهم، وأسلوب تفكيرهم، وتقدم لهم الحلول لمختلف المشكلات التي تهم حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفي خضم هذا الواقع الذي تتصارع فيه الأمم والشعوب من أجل الحفاظ على لغاتها ونشرها وتطويرها ننظر مستبدا بنا الألم إلى المستوى المنحدر الذي آلت إليه اللغة العربية، وقد ساهم كل منّا بقسطه في هذا الانحدار وجنينا جناية بالغة في حق أبناء هذا الجيل والأجيال المقبلة بل في حق اللغة العربية. يقول الأستاذ فاروق جويدة تحت عنوان "قبل أن تصبح اللغة العربية غريبة بيننا" اللغة العربية في محنة هذه حقيقة نكاد ندركها ونلمسها جميعا ولكننا للأسف الشديد نقف أمامها مكتوفي الأيدي كمن يشاهد إبنه يصارع أمواج البحر ولا يحاول إنقاذه، ومحنة اللغة العربية ظاهرة يتصاعد دخانها أمام أعيننا منذ سنوات طويلة حتى وصلت الأحوال بها إلى درجة توشك فيها أن تصبح غريبة بيننا.
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire