تمهيد
تتميز نظرة الإسلام بالواقعية والعمق والشمولية، أمّا النظرة الواقعية فتتمثل في احتلال الماء أهمية كبرى في نصوص القرآن الكريم باعتباره أصل الحياة ونعمة النعم التي منّ الله بها على بني آدم. وأمّا عمق هذه النظرة فتبرز خاصة في البرهنة بحجج دامغة وملموسة على أنّ الماء آية من آيات الله الدّالة على وحدانيته سبحانه وتعالى وعظيم قدرته على البعث والنشور وإحياء الموتى...
وأما الشمولية فتتجسد أساسا في إحاطة الإسلام بكل منافع الماء وأدواره في هذه الدنيا وكذلك في الآخرة.
الماء واصل الحياة
أ- الماء أصل الحياة
إنّ كون الماء يمثّل سرّ الحياة النضيرة الزاهية المخضرّة حقيقة كونية ووجوديّة لم يغفل عنها الإنسان في أيّ زمان وفي أي مكان، لذلك نجد القرآن الكريم يثبت هذه الحقيقة بكل وضوح ودقّة: يقول عزّ وجلّ في سورة الأنبياء " أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرٍض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون" (أنبياء/30).
والمعنى: أو لم يعلم الكفار بالله والمشركون الذين أشركوا مع الله إلها آخر أنّ السماوات والأرض كانتا ملتصقتين شيئا واحدا، ففصلناهما وميزناهما عن بعضهما بكتلة الهواء، وخلقنا من الماء كلّ شيء: من حيوان ونبات وغيرهما أفلا يصدقون بقدرتي وتوحيدي؟
ب- الماء أصل خلق الإنسان
إذا تأمّل الإنسان ونظر نظرة مستنيرة من أي شيء خلقه ربّه، فسيجد أنّه خلق من ماء (مني) مصبوب في الرّحم، ويخرج هذا الماء من بين ظهر الرجل وعظام صدر المرأة يقول عزّ وجلّ: " فلينظر الإنسان ممّ خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصّلب والترائب". (الطارق/5-7)
ويقول عزّ وجلّ: " ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون". (المرسلات/20-23)
"وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربّك قديرا". (الفرقان/54)
أ- الماء أصل خلق الدّواب
إن كون كل من هبّ ودبّ على وجه الأرض قد خلق من ماء قانون إلهي ينطبق على كل المخلوقات بدون استثناء. يقول عزّ وجلّ: "والله خلق كلّ دابّة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إنّ الله على كلّ شيء قدير" (النور/45)
نتيجة أولى: الماء دليل على وحدانية الخالق
إنّ وحدة العنصر الذي يرجع إليه أصل الحياة (وهو الماء) يبرهن بقوّة وبحجج دامغة على وحدانية الخالق وتفرّده بالخلق دون سواه، لأن إتباع نسق واحد في خلق السماوات والأرض وهندستها ورجوع أصل الحياة على اختلافها إلى شيء واحد ونظام واحد برهان قويّ وحجة ما بعدها حجّة على وحدانية الخالق وهو ليس كمثله شيء. فالله واحد في ذاته، لا شريك له، لم يلد ولم يولد من أحد، لأنّه قديم أزلي غير محدث فالله تبارك وتعالى هو خالق الكون وما فيه، وأنّه تعالى وحده المتصرّف فيه، وأن الجميع يخضع لإرادته ومشيئته، إن وحدة الموجد لهذا الكون، ووحدة الموجودات في السماوات أأأاوالأرضين ووحدة البشرية جميعا ووحدة القوانين التي تسير بمقتضاها الكائنات تنفي عبثية الكون وتدلّ على قدرة الله وترشد العباد إلى عظيم حكمة الله وتجنبهم الشّرك والكفر والضلال. إذ لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى غير الله لخربتا واختل نظام الكون وتضاربت نواميسه لاستبداد كل إله بتصرّف معيّن، فيقع التنازع والاختلاف. وبهذا يكون الماء آية تدلّ على أن الله واحد أحد لكونه أصل فريد لكلّ الكائنات الحيّة يقول سبحانه وتعالى في سورة الواقعة: " أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون" (الواقعة/68-70)، أي أخبروني أيّها الناس عن الماء الذي تشربون منه لإرواء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحب أم نحن المنزلون له بإرادتنا وقدرتنا دون غيرنا؟
وبعد ما يثبت لنا القرآن العظيم وحدانية الخالق عزّ وجلّ وتنزهه عن الشريك في خلق السماوات والأرض والنّاس والدّواب والنبات، وتفرّده في تدبير الكون... يقدّم لنا الإسلام براهين ملموسة ومشاهدة على إمكانية البعث وإحياء الموتى يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
الماء وقضية البعث
أ- بداية خلق الإنسان من تراب
تجمع عديد الآيات القرآنية على أن الله تجلت قدرته خلق الناس في الأصل من تراب بخلق أبيهم آدم عليه السّلام، ثم خلقهم من نطفة... يقول عزّ وجلّ: "ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا انتم بشر تنتشرون" (الرّوم/20). ويقول أيضا: "الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون" (السجدة/ 7-9).
ونجد أيضا هذه الآية: "هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفـّى من قبل ولتبلغوا أجلا غير مسمّى ولعلكم تعقلون" (غافر/67).
ب- إحياء الأرض الميتة بالماء
تلفت عديد الآيات القرآنية انتباه الإنسان إلى التحوّل الذي يطرأ على الأرض الميّتة بعد نزول المطر عليها. فهي تكون هامدة بين الحياة والموت فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت، وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجّلها الملاحظة العلمية بمئات السنين، فالتربة الجافة ينزل عليها الماء فتتحرّك حركة اهتزاز وهي تشرب وتنتفخ فتربو وتنبت من كلّ صنف نباتي نضير، يقول عزّ وجلّ: "ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون" (الروم/24). "أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجُرُز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون" (السجدة/27) ويقول أيضا: " وهو الذي أرسل الريح بُشرا بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماء طهورا، لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسيّ كثيرا" (الفرقان/48-49).
نتيجة ثانية: الماء برهان على يوم البعث لأن إحياء الأرض الميّتة في الدنيا يضاهي إحياء الموتى يوم القيامة.
إذا كان الإنسان يشترك مع الأرض في الأصل الواحد وهو التراب فإنّ إحياء الأرض بعد موتها برهان على استطاعة الله إحياء الموتى يوم القيامة فإذا كان الله بقدرته يحيي الأرض الميتة بقطرات من الماء فهل يعقل أن يعجز عن إحياء الإنسان بعد موته وهو الذي بدأ الله خلقه من تراب..؟؟! فالذي أحيا الأرض قادر ولا شكّ على إحياء الموتى بعد فنائهم وهو قادر على كلّ شيء فالماء كما برهن يقينيا على وحدانية الله فهو يبرهن بالملموس ويقرّب إلى الأذهان كيفيّة البعث والنشور. فكون أصل الإنسان من تراب فإحياء الأرض بعد موتها يتفق مع إمكانية إحياء الإنسان بعد الموت، وفيما يلي بعض الآيات التي تشرح هذه المعاني وتربط بين كيفية إحياء الأرض بالماء وكيفية إحيائه الموتى يوم القيامة، يقول عزّ وجلّ: "يا أيّها النّاس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلّقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى ثم نخرجكم طفلا ثمّ لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفـّى ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بانّ الله هو الحق وأنّه يحيي الموتى وإنّه على كل شيء قدير" (الحج/5-6)
"والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون" (الزخرف/11)
"ومن آياته أنّك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنّه على كلّ شيء قدير" (فصلت/39)
"والله الذي أرسل الرّياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النّشوز" (فاطر/9)
فهذه الآيات تجمع على أن الله الذي أرسل الرّياح مبشرات بهطول الأمطار، فتحرّك سحابا وتدفعه إلى جهة ما فيسوق الله هذا السحاب المحمّل بالغيث إلى بلد مجدب قاحل غير منبت فيحيي بالمطر الأرض بإنبات النبات بعد يبسها وجدبها. وبمثل ذلك الإحياء يحيي الله العباد بعد الموت ، فهو "يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون" (الرّوم/19).
ولعلّ ما يبعث به نزول الغيث من أمل وبشرى في نفوس الناس بعد اليأس والقنوط عمليّة تقرّب من الأذهان كيفية الحياة بعد الموت أيضا لأنّ اليأس نوع من الموت، يقول عزّ وجلّ: "وهو الذي ينزّل الغيث من بعدما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد" (الشورى/28). فالله هو الذي ينزل المطر لإغاثة الناس بعد يأسهم من نزوله وتعمّ رحمته كلّ شيء، وتنشر منافع الغيث في كل مكان، وهو الذي يتولى الصّالحين من عباده بالإحسان المحمود على كلّ حال، المستحق للحمد والشّكر على نعمه الكثيرة فالمطر دائما يحمل البشرى بالخير والخصب، يقول الحق تبارك وتعالى: "الله الذي يرسل الرّياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من حلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون، وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين. فانظر إلى أثر رحمة ربّك كيف يحيي الأرض بعد موتها إنّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كلّ شيء قدير" (الروم/48-50)
الماء أصل كلّ الخيرات في الدّنيا والآخرة
· في الدنيا
أ- طعام الإنسان أصله ماء
إذا ما نظر الإنسان نظرة تأمّل وتفكّر كيف أوجد الله له مطعومه الذي هو سبب حياته فسيجد أنّ الله أنزل المطر إنزالا سخيا كثيرا، ثمّ شقّ الأرض حبّا كالحنطة والشعير، وأعناب وكلّ ما يقطع أخضر طريّا وأشجار زيتون ونخيل وبساتين كثيرة الأشجار. وفاكهة مختلفة الألوان والأنواع وعشبا للدواب، خلقها الله منفعة للبشر ولجميع حيواناتهم يقول عزّ وجلّ: "فلينظر الإنسان إلى طعامه إنّا صببنا الماء صبّا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبّا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبًّا متاع لكم ولأنعامكم" (عبس/24-32). كما جاء قوله تعالى: "وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبّا ونباتا وجنات ألفافا" (النبأ/14-16).
فكل ما يمثل قوتا للعباد من بساتين مشجرة كثيرة، وزروع مختلفة ذات حبوب كالبر والشعير والنّخيل المتميّز بأشجار طوال عالية لها ثم منضد: كل هذه الخيرات أصلها المطر رمز الخير والبركة والمنفعة يقول عزّ وجلّ: "ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحَبَّ الحصيد، والنخل باسقات لها طلح نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج" (ق/9-11).
إنّ الرّبيع يبعث مع جريان الجداول، فتعمر المنتزهات الزاهية وتزدهي الطبيعة بكساء مزركش أخاذ، ويعبق الفضاء بنسيم نقي عاطر وترفرف البلابل والفرشات فتلقاها تجيء وتروح وتحوم وترقص... ويهنأ الناس باشهى الثمار وأجمل الورود والياسمين. وكل هذه الخيرات التي ينعم بها البشر تسقى بماء واحد كما الرّب واحد. لكن لا يجب أن يغترّ المرء بهذه الخضرة والتنوّع لأنّ كلّ ذلك سييبس ويجف فتراه مصفرّا بعد خضرته، ثمّ يتفتّت ويتكسّر يقول الله في ذلك: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثمّ يهيج فتراه مصفرّا ثمّ يجعله حطاما إنّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب" (الزمر/21).
وهذه القوانين تنسحب على كل المخلوقات الكونية حتى يعلم الإنسان أن عبادة الله هي الغاية القصوى من خلقه فيسعى تبعا لذلك في هذه الحياة الدنيا مستفيدا مما سخره الله من الكائنات والخيرات كوسيلة لحفظ البدن الذاكر الشاكر المتفكّر...
ب- استخراج الزينة والحلي من البحر
يعتمد الإنسان في معاشه على ما يستخرجه من البحر أيضا كالسمك واللؤلؤ والمرجان، كما يستعمل السفن عابرات شاقات الماء يجربها فيه طلبا لرزق الله وفضله بالتجارة يقول عزّ وجلّ: "وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريّا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون".(فاطر/12)
ج- الماء فيه شفاء من بعض الأسقام
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنّ النبي الصّابر أيّوب بن أموص بن أروم حين دعا ربّه متضرّعا بأنه أصيب بضرّ ومشقّة وألم أي مرض قال له الله: اضرب برجلك الأرض يخرج ينبوع من الماء البارد، كما أمر موسى بضرب الحجر، فضرب، فنبعت عين جارية، قيل له هذا ماء بارد مغتسل تغتسل به، وشراب تشرب منه، ففعل فبرئ مما أصابه، يقول الله تعالى في ذلك: "واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه إنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب" (ص/41-42).
د- الماء إحدى المعجزات وحجة على الكفار
فقد أوحى الله إلى موسى عليه السلام حين طلب قومه السقيا، لما أصابهم من العطش في صحراء التيه، أن اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت منه أثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط، فقد علم كل سبط منهم مكان شربهم، قال تعالى: "وأوحينا إلى موسى إذا استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه أثنتا عشر عينا قد علم كل أناس مشربهم" (الأعراف/160). وكان الماء من أبلغ الحجج التي قدّمها النبي نوح عليه السلام لقومه لكي يؤمنوا بالله ويوحدوه، قال عزّ وجلّ على لسان نوح: " فقلت استغفروا ربّكم أنّه كان غفّارا يرسل السّماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم أنهارا" (نوح/10-12). وكذلك ذكّر كل من هود وصالح عليهما السلام قومهم بنعمة الماء يقول عزّ وجلّ: "كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون... فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمدّكم بأنعام وبنين وجنات وعيون" (الشعراء/123-134).
وقال صالح عليه السلام لقومه ثمود: "إنّي لكم رسول أمين فاتّقوا الله وأطيعون... أتتركون في ما هاهنا آمنين في جنات وعيون" (الشعراء/143-147). كما كان الماء سببا في إنقاذ المؤمنين بنوح عليه السلام من الطّوفان في السّفينة التي تجري فوق الماء، وهي سفينة نوح يقول عزّ وجلّ: "..إنّا لما طغا الماء حملناكم في الجارية" (الحاقة/11). وجعل الله اليم منقذ لموسى من الموت المحتم على يد فرعون عليه لعنة الله. يقصّ القرآن ذلك فيقول: " وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين" (القصص/7).
ولمّا عرض زعماء قريش كأبي سفيان والنضر بن الحارث على النبي صلى الله عليه وسلم الملك والجاه والشرف ليكفّ عن دعوته فأبى ذلك... فسانده الله على موقفه مبينا له أنّه لو شاء لجعل له خيرا ممّا اقترحوه، وهو بساتين تجري من تحت غرفها الأنهار ممّا يبرهن على أن الماء يحتل عند الله أعلى الدرجات من بين جميع الخيرات، يقول عزّ وجلا في ذلك: " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنّات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا" (الفرقان/10)
· في الآخرة
أ- الماء مكوّن من مكوّنات الجنّة
هذه بعض العينات للأهمية البالغة التي يحتلها الماء في حياة البشر من وجهة نظر إسلامية حاولنا أن تكون مدعّمة بآيات من القرآن الكريم، وهذه الأهمية التي يحتلها الماء في هذه الدّنيا ستزداد أهميتها يوم القيامة بالنسبة للمؤمنين الذين فازوا برضوان الله عزّ وجلّ وفيما يلي بعض الآيات القرآنية التي تصوّر لنا النعيم الذي سيمتع به الأبرار في الجنّة والذي سيكون الماء ركيزة من ركائزه يقول عزّ وجلّ: " إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير" (البروج/11).
"إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه من مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم، عينا يشرب بها المقرّبون" (المطففين/22-28). "إنّ المتقين في ظلال وعيون وفواكه ممّا يشتهون، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، إنّا كذلك نجزي المحسنين" (المرسلات/41-44). "إنّ الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا" (الإنسان/ 5-6).
"إنّ المتقين في مقام أمين في جنّات وعيون" (الدّخان/51-52). " لكن الذين اتّقوا ربّهم لهم غرف من فوقها غرف مبنيّة تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد" (الزمر/20).
"هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب، جنّات عدن مفتّحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب" (ص/49-51).
"إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرّمون، في جنّات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذّة للشاربين لا فيها غَوْل ولا هم عنها ينزفون" (الصافات/40-48).
فالمؤمن كما هو في الدّنيا خيّر نافع مثمر، فإنّ جزاءه يوم القيامة يكون الإقامة الدّائمة في بساتين مختلفة، وأنهار متنوّعة، وفي مكان لا لغو فيه ولا تأثيم، عند ملك قادر لا يعجزه شيء، يقول عزّ وجلّ: "إنّ المتّقين في جنّات ونَهَر في مقعد صدق عند مليك مقتدر" (القمر/54-55).
الماء وسيلة يعاقب الله بها الكفار
· في الآخرة
إنّ آية الماء التي تبرهن على وحدانية الله وعظمته وتقرّب إلى الأذهان كيفية البعث والنشوز وكانت أصلا لخيري الدّنيا والآخرة بما تبعثه من خيرات في كافة مرافق الحياة، شاءت حكمة الله أن يكون الماء أيضا أداة فعّالة في عقاب الكفار في الدّنيا ومجازاتهم يوم البعث، فعلى عكس الجنّة التي وعد الله بها المتّقين، فيها أنهار جارية من ماء غير متغيّر الرّائحة والطّعم، وأنهار من حليب لم يتغيّر طعمه أيضا وأنهار من خمر لذة للشاربين، غير مؤذية ولا كريهة الطعم كخمر الدّنيا، وأنهار من عسل مصفـّى من الشّوائب على عكس مصير هؤلاء المتّقين سيكون مصير الكفار الخلود في النّار وسيسقون ماء حارّا شديد الغليان، فيقطع أمعاءهم، لشدّة حرارته، يقول عزّ وجلّ: "لم يتغيّر طعمه وانهار من خمر لذّة للشاربين وأنهار من عسل مصفّى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربّهم كمن هو خالد في النّار وسقوا ماء حميما فقطّع أمعائهم" (محمد/15).
· في الدنيا
إنّ هذه الحال التي سيكون عليها الكفّار يوم القيامة هناك صورة مصغّرة لها في هذه الدّنيا وفيما يلي بعض الأمثلة:
- غرق قوم نوح: كذبوا نبي الله نوحا عليه السلام وقالوا عنه مجنون وزجروه بشدّة فازدجر وكفّ عن دعوى الرّسالة فدعا ربّه بأنّه مغلوب على أمره ففتح الله أبواب السّماء بمطر غزير منصب بشدّة وتتابع وشقّ عيون الأرض بالمياه، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قضى به في الأزل وقدره الله وهو الطوفان على "أمر" وهو إغراقهم... يقول عزّ وجلّ: "كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربّه إنّي مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السّماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر" (القمر/9-12)، "قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين، قال ربّي إنّ قومي كذبون، فافتح بيني وبينهم فتحا ونجّني ومن معي من المؤمنين، فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون، ثم أغرقنا بعدُ الباقين، إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين" (الشعراء/116-121).
ويقول تعالى: " وقوم نوح لمّا كذبوا الرّسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية واعتدنا للظالمين عذابا أليما" (الفرقان/37).
فالله لما استنجد به نوح عليه السلام أوحى إليه أن اصنع السفينة بحفظه وعنايته وإرشاده وتعليمه إيّاه وأمره بأن يحمل في السّفينة من كلّ أنواع الحيوان صنفين: ذكر وأنثى، ليستمرّ توالد الحيوان وتبقى الحياة في الأرض ثمّ كتب على الذين ظلموا الغرق والموت.
- غرق فرعون وجنده وترك العيون والجنان: يقول عزّ وجلّ: "فدعا ربّه أنّ هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنّهم جند مغرقون، كم تركوا من جنّات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين" (الدخان/22-28)
وقال الله تعالى في سورة الذاريات: "وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ وهو مُليم" (الذاريات/38-40)
ويقول عز جلّ مبينا أن الإغراق كان سبب الإفراط في العصيان والفساد وإغضاب الله: "فاستخفّ قومه فأطاعوه أنّهم كانوا قوما فاسقين فلمّا آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين" (الزخرف/54-55).
فعاقبة الظلم والكفر تكون دائما وخيمة بمقتضى النواميس الإلهية : "فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين". (القصص/40).
الفهرس
تمهيد
الماء وأصل الحياة
أ- الماء أصل الحياة
ب- الماء أصل خلق الإنسان
ت- الماء أصل خلق الدواب
نتيجة أولى: الماء دليل على وحدانية الخالق (لأن وحدة أصل الأشياء يبرهن على وحدة خالقها).
الماء وقضية البعث
أ- بداية خلق الإنسان من تراب
ب- إحياء الأرض الميتة بالماء
نتيجة ثانية: الماء برهان على يوم البعث (لأن إحياء الأرض الميتة يضاهي إحياء الموتى يوم القيامة)
الماء اصل كل الخيرات في الدنيا والاخرة
· في الدنيا
أ- طعام الإنسان أصله من ماء
ب- استخرا الزينة والحلي من البحر
ج- الماء إحدى المعجزات وحجة على الكفار
د- الماء فيه شفاء من بعض الأسقام
· في الآخرة
أ- الماء مكوّن من مكونات الجنة
الماء وسيلة يعاقب الله بها الكفار
· في الآخرة
· في الدنيا
الخلاصة
تتميز نظرة الإسلام بالواقعية والعمق والشمولية، أمّا النظرة الواقعية فتتمثل في احتلال الماء أهمية كبرى في نصوص القرآن الكريم باعتباره أصل الحياة ونعمة النعم التي منّ الله بها على بني آدم. وأمّا عمق هذه النظرة فتبرز خاصة في البرهنة بحجج دامغة وملموسة على أنّ الماء آية من آيات الله الدّالة على وحدانيته سبحانه وتعالى وعظيم قدرته على البعث والنشور وإحياء الموتى...
وأما الشمولية فتتجسد أساسا في إحاطة الإسلام بكل منافع الماء وأدواره في هذه الدنيا وكذلك في الآخرة.
الماء واصل الحياة
أ- الماء أصل الحياة
إنّ كون الماء يمثّل سرّ الحياة النضيرة الزاهية المخضرّة حقيقة كونية ووجوديّة لم يغفل عنها الإنسان في أيّ زمان وفي أي مكان، لذلك نجد القرآن الكريم يثبت هذه الحقيقة بكل وضوح ودقّة: يقول عزّ وجلّ في سورة الأنبياء " أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرٍض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون" (أنبياء/30).
والمعنى: أو لم يعلم الكفار بالله والمشركون الذين أشركوا مع الله إلها آخر أنّ السماوات والأرض كانتا ملتصقتين شيئا واحدا، ففصلناهما وميزناهما عن بعضهما بكتلة الهواء، وخلقنا من الماء كلّ شيء: من حيوان ونبات وغيرهما أفلا يصدقون بقدرتي وتوحيدي؟
ب- الماء أصل خلق الإنسان
إذا تأمّل الإنسان ونظر نظرة مستنيرة من أي شيء خلقه ربّه، فسيجد أنّه خلق من ماء (مني) مصبوب في الرّحم، ويخرج هذا الماء من بين ظهر الرجل وعظام صدر المرأة يقول عزّ وجلّ: " فلينظر الإنسان ممّ خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصّلب والترائب". (الطارق/5-7)
ويقول عزّ وجلّ: " ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون". (المرسلات/20-23)
"وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربّك قديرا". (الفرقان/54)
أ- الماء أصل خلق الدّواب
إن كون كل من هبّ ودبّ على وجه الأرض قد خلق من ماء قانون إلهي ينطبق على كل المخلوقات بدون استثناء. يقول عزّ وجلّ: "والله خلق كلّ دابّة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إنّ الله على كلّ شيء قدير" (النور/45)
نتيجة أولى: الماء دليل على وحدانية الخالق
إنّ وحدة العنصر الذي يرجع إليه أصل الحياة (وهو الماء) يبرهن بقوّة وبحجج دامغة على وحدانية الخالق وتفرّده بالخلق دون سواه، لأن إتباع نسق واحد في خلق السماوات والأرض وهندستها ورجوع أصل الحياة على اختلافها إلى شيء واحد ونظام واحد برهان قويّ وحجة ما بعدها حجّة على وحدانية الخالق وهو ليس كمثله شيء. فالله واحد في ذاته، لا شريك له، لم يلد ولم يولد من أحد، لأنّه قديم أزلي غير محدث فالله تبارك وتعالى هو خالق الكون وما فيه، وأنّه تعالى وحده المتصرّف فيه، وأن الجميع يخضع لإرادته ومشيئته، إن وحدة الموجد لهذا الكون، ووحدة الموجودات في السماوات أأأاوالأرضين ووحدة البشرية جميعا ووحدة القوانين التي تسير بمقتضاها الكائنات تنفي عبثية الكون وتدلّ على قدرة الله وترشد العباد إلى عظيم حكمة الله وتجنبهم الشّرك والكفر والضلال. إذ لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى غير الله لخربتا واختل نظام الكون وتضاربت نواميسه لاستبداد كل إله بتصرّف معيّن، فيقع التنازع والاختلاف. وبهذا يكون الماء آية تدلّ على أن الله واحد أحد لكونه أصل فريد لكلّ الكائنات الحيّة يقول سبحانه وتعالى في سورة الواقعة: " أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون" (الواقعة/68-70)، أي أخبروني أيّها الناس عن الماء الذي تشربون منه لإرواء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحب أم نحن المنزلون له بإرادتنا وقدرتنا دون غيرنا؟
وبعد ما يثبت لنا القرآن العظيم وحدانية الخالق عزّ وجلّ وتنزهه عن الشريك في خلق السماوات والأرض والنّاس والدّواب والنبات، وتفرّده في تدبير الكون... يقدّم لنا الإسلام براهين ملموسة ومشاهدة على إمكانية البعث وإحياء الموتى يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
الماء وقضية البعث
أ- بداية خلق الإنسان من تراب
تجمع عديد الآيات القرآنية على أن الله تجلت قدرته خلق الناس في الأصل من تراب بخلق أبيهم آدم عليه السّلام، ثم خلقهم من نطفة... يقول عزّ وجلّ: "ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا انتم بشر تنتشرون" (الرّوم/20). ويقول أيضا: "الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون" (السجدة/ 7-9).
ونجد أيضا هذه الآية: "هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفـّى من قبل ولتبلغوا أجلا غير مسمّى ولعلكم تعقلون" (غافر/67).
ب- إحياء الأرض الميتة بالماء
تلفت عديد الآيات القرآنية انتباه الإنسان إلى التحوّل الذي يطرأ على الأرض الميّتة بعد نزول المطر عليها. فهي تكون هامدة بين الحياة والموت فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت، وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجّلها الملاحظة العلمية بمئات السنين، فالتربة الجافة ينزل عليها الماء فتتحرّك حركة اهتزاز وهي تشرب وتنتفخ فتربو وتنبت من كلّ صنف نباتي نضير، يقول عزّ وجلّ: "ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون" (الروم/24). "أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجُرُز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون" (السجدة/27) ويقول أيضا: " وهو الذي أرسل الريح بُشرا بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماء طهورا، لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسيّ كثيرا" (الفرقان/48-49).
نتيجة ثانية: الماء برهان على يوم البعث لأن إحياء الأرض الميّتة في الدنيا يضاهي إحياء الموتى يوم القيامة.
إذا كان الإنسان يشترك مع الأرض في الأصل الواحد وهو التراب فإنّ إحياء الأرض بعد موتها برهان على استطاعة الله إحياء الموتى يوم القيامة فإذا كان الله بقدرته يحيي الأرض الميتة بقطرات من الماء فهل يعقل أن يعجز عن إحياء الإنسان بعد موته وهو الذي بدأ الله خلقه من تراب..؟؟! فالذي أحيا الأرض قادر ولا شكّ على إحياء الموتى بعد فنائهم وهو قادر على كلّ شيء فالماء كما برهن يقينيا على وحدانية الله فهو يبرهن بالملموس ويقرّب إلى الأذهان كيفيّة البعث والنشور. فكون أصل الإنسان من تراب فإحياء الأرض بعد موتها يتفق مع إمكانية إحياء الإنسان بعد الموت، وفيما يلي بعض الآيات التي تشرح هذه المعاني وتربط بين كيفية إحياء الأرض بالماء وكيفية إحيائه الموتى يوم القيامة، يقول عزّ وجلّ: "يا أيّها النّاس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلّقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى ثم نخرجكم طفلا ثمّ لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفـّى ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بانّ الله هو الحق وأنّه يحيي الموتى وإنّه على كل شيء قدير" (الحج/5-6)
"والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون" (الزخرف/11)
"ومن آياته أنّك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنّه على كلّ شيء قدير" (فصلت/39)
"والله الذي أرسل الرّياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النّشوز" (فاطر/9)
فهذه الآيات تجمع على أن الله الذي أرسل الرّياح مبشرات بهطول الأمطار، فتحرّك سحابا وتدفعه إلى جهة ما فيسوق الله هذا السحاب المحمّل بالغيث إلى بلد مجدب قاحل غير منبت فيحيي بالمطر الأرض بإنبات النبات بعد يبسها وجدبها. وبمثل ذلك الإحياء يحيي الله العباد بعد الموت ، فهو "يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون" (الرّوم/19).
ولعلّ ما يبعث به نزول الغيث من أمل وبشرى في نفوس الناس بعد اليأس والقنوط عمليّة تقرّب من الأذهان كيفية الحياة بعد الموت أيضا لأنّ اليأس نوع من الموت، يقول عزّ وجلّ: "وهو الذي ينزّل الغيث من بعدما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد" (الشورى/28). فالله هو الذي ينزل المطر لإغاثة الناس بعد يأسهم من نزوله وتعمّ رحمته كلّ شيء، وتنشر منافع الغيث في كل مكان، وهو الذي يتولى الصّالحين من عباده بالإحسان المحمود على كلّ حال، المستحق للحمد والشّكر على نعمه الكثيرة فالمطر دائما يحمل البشرى بالخير والخصب، يقول الحق تبارك وتعالى: "الله الذي يرسل الرّياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من حلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون، وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين. فانظر إلى أثر رحمة ربّك كيف يحيي الأرض بعد موتها إنّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كلّ شيء قدير" (الروم/48-50)
الماء أصل كلّ الخيرات في الدّنيا والآخرة
· في الدنيا
أ- طعام الإنسان أصله ماء
إذا ما نظر الإنسان نظرة تأمّل وتفكّر كيف أوجد الله له مطعومه الذي هو سبب حياته فسيجد أنّ الله أنزل المطر إنزالا سخيا كثيرا، ثمّ شقّ الأرض حبّا كالحنطة والشعير، وأعناب وكلّ ما يقطع أخضر طريّا وأشجار زيتون ونخيل وبساتين كثيرة الأشجار. وفاكهة مختلفة الألوان والأنواع وعشبا للدواب، خلقها الله منفعة للبشر ولجميع حيواناتهم يقول عزّ وجلّ: "فلينظر الإنسان إلى طعامه إنّا صببنا الماء صبّا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبّا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبًّا متاع لكم ولأنعامكم" (عبس/24-32). كما جاء قوله تعالى: "وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبّا ونباتا وجنات ألفافا" (النبأ/14-16).
فكل ما يمثل قوتا للعباد من بساتين مشجرة كثيرة، وزروع مختلفة ذات حبوب كالبر والشعير والنّخيل المتميّز بأشجار طوال عالية لها ثم منضد: كل هذه الخيرات أصلها المطر رمز الخير والبركة والمنفعة يقول عزّ وجلّ: "ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحَبَّ الحصيد، والنخل باسقات لها طلح نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج" (ق/9-11).
إنّ الرّبيع يبعث مع جريان الجداول، فتعمر المنتزهات الزاهية وتزدهي الطبيعة بكساء مزركش أخاذ، ويعبق الفضاء بنسيم نقي عاطر وترفرف البلابل والفرشات فتلقاها تجيء وتروح وتحوم وترقص... ويهنأ الناس باشهى الثمار وأجمل الورود والياسمين. وكل هذه الخيرات التي ينعم بها البشر تسقى بماء واحد كما الرّب واحد. لكن لا يجب أن يغترّ المرء بهذه الخضرة والتنوّع لأنّ كلّ ذلك سييبس ويجف فتراه مصفرّا بعد خضرته، ثمّ يتفتّت ويتكسّر يقول الله في ذلك: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثمّ يهيج فتراه مصفرّا ثمّ يجعله حطاما إنّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب" (الزمر/21).
وهذه القوانين تنسحب على كل المخلوقات الكونية حتى يعلم الإنسان أن عبادة الله هي الغاية القصوى من خلقه فيسعى تبعا لذلك في هذه الحياة الدنيا مستفيدا مما سخره الله من الكائنات والخيرات كوسيلة لحفظ البدن الذاكر الشاكر المتفكّر...
ب- استخراج الزينة والحلي من البحر
يعتمد الإنسان في معاشه على ما يستخرجه من البحر أيضا كالسمك واللؤلؤ والمرجان، كما يستعمل السفن عابرات شاقات الماء يجربها فيه طلبا لرزق الله وفضله بالتجارة يقول عزّ وجلّ: "وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريّا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون".(فاطر/12)
ج- الماء فيه شفاء من بعض الأسقام
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنّ النبي الصّابر أيّوب بن أموص بن أروم حين دعا ربّه متضرّعا بأنه أصيب بضرّ ومشقّة وألم أي مرض قال له الله: اضرب برجلك الأرض يخرج ينبوع من الماء البارد، كما أمر موسى بضرب الحجر، فضرب، فنبعت عين جارية، قيل له هذا ماء بارد مغتسل تغتسل به، وشراب تشرب منه، ففعل فبرئ مما أصابه، يقول الله تعالى في ذلك: "واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه إنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب" (ص/41-42).
د- الماء إحدى المعجزات وحجة على الكفار
فقد أوحى الله إلى موسى عليه السلام حين طلب قومه السقيا، لما أصابهم من العطش في صحراء التيه، أن اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت منه أثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط، فقد علم كل سبط منهم مكان شربهم، قال تعالى: "وأوحينا إلى موسى إذا استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه أثنتا عشر عينا قد علم كل أناس مشربهم" (الأعراف/160). وكان الماء من أبلغ الحجج التي قدّمها النبي نوح عليه السلام لقومه لكي يؤمنوا بالله ويوحدوه، قال عزّ وجلّ على لسان نوح: " فقلت استغفروا ربّكم أنّه كان غفّارا يرسل السّماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم أنهارا" (نوح/10-12). وكذلك ذكّر كل من هود وصالح عليهما السلام قومهم بنعمة الماء يقول عزّ وجلّ: "كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون... فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمدّكم بأنعام وبنين وجنات وعيون" (الشعراء/123-134).
وقال صالح عليه السلام لقومه ثمود: "إنّي لكم رسول أمين فاتّقوا الله وأطيعون... أتتركون في ما هاهنا آمنين في جنات وعيون" (الشعراء/143-147). كما كان الماء سببا في إنقاذ المؤمنين بنوح عليه السلام من الطّوفان في السّفينة التي تجري فوق الماء، وهي سفينة نوح يقول عزّ وجلّ: "..إنّا لما طغا الماء حملناكم في الجارية" (الحاقة/11). وجعل الله اليم منقذ لموسى من الموت المحتم على يد فرعون عليه لعنة الله. يقصّ القرآن ذلك فيقول: " وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين" (القصص/7).
ولمّا عرض زعماء قريش كأبي سفيان والنضر بن الحارث على النبي صلى الله عليه وسلم الملك والجاه والشرف ليكفّ عن دعوته فأبى ذلك... فسانده الله على موقفه مبينا له أنّه لو شاء لجعل له خيرا ممّا اقترحوه، وهو بساتين تجري من تحت غرفها الأنهار ممّا يبرهن على أن الماء يحتل عند الله أعلى الدرجات من بين جميع الخيرات، يقول عزّ وجلا في ذلك: " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنّات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا" (الفرقان/10)
· في الآخرة
أ- الماء مكوّن من مكوّنات الجنّة
هذه بعض العينات للأهمية البالغة التي يحتلها الماء في حياة البشر من وجهة نظر إسلامية حاولنا أن تكون مدعّمة بآيات من القرآن الكريم، وهذه الأهمية التي يحتلها الماء في هذه الدّنيا ستزداد أهميتها يوم القيامة بالنسبة للمؤمنين الذين فازوا برضوان الله عزّ وجلّ وفيما يلي بعض الآيات القرآنية التي تصوّر لنا النعيم الذي سيمتع به الأبرار في الجنّة والذي سيكون الماء ركيزة من ركائزه يقول عزّ وجلّ: " إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير" (البروج/11).
"إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه من مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم، عينا يشرب بها المقرّبون" (المطففين/22-28). "إنّ المتقين في ظلال وعيون وفواكه ممّا يشتهون، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، إنّا كذلك نجزي المحسنين" (المرسلات/41-44). "إنّ الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا" (الإنسان/ 5-6).
"إنّ المتقين في مقام أمين في جنّات وعيون" (الدّخان/51-52). " لكن الذين اتّقوا ربّهم لهم غرف من فوقها غرف مبنيّة تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد" (الزمر/20).
"هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب، جنّات عدن مفتّحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب" (ص/49-51).
"إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرّمون، في جنّات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذّة للشاربين لا فيها غَوْل ولا هم عنها ينزفون" (الصافات/40-48).
فالمؤمن كما هو في الدّنيا خيّر نافع مثمر، فإنّ جزاءه يوم القيامة يكون الإقامة الدّائمة في بساتين مختلفة، وأنهار متنوّعة، وفي مكان لا لغو فيه ولا تأثيم، عند ملك قادر لا يعجزه شيء، يقول عزّ وجلّ: "إنّ المتّقين في جنّات ونَهَر في مقعد صدق عند مليك مقتدر" (القمر/54-55).
الماء وسيلة يعاقب الله بها الكفار
· في الآخرة
إنّ آية الماء التي تبرهن على وحدانية الله وعظمته وتقرّب إلى الأذهان كيفية البعث والنشوز وكانت أصلا لخيري الدّنيا والآخرة بما تبعثه من خيرات في كافة مرافق الحياة، شاءت حكمة الله أن يكون الماء أيضا أداة فعّالة في عقاب الكفار في الدّنيا ومجازاتهم يوم البعث، فعلى عكس الجنّة التي وعد الله بها المتّقين، فيها أنهار جارية من ماء غير متغيّر الرّائحة والطّعم، وأنهار من حليب لم يتغيّر طعمه أيضا وأنهار من خمر لذة للشاربين، غير مؤذية ولا كريهة الطعم كخمر الدّنيا، وأنهار من عسل مصفـّى من الشّوائب على عكس مصير هؤلاء المتّقين سيكون مصير الكفار الخلود في النّار وسيسقون ماء حارّا شديد الغليان، فيقطع أمعاءهم، لشدّة حرارته، يقول عزّ وجلّ: "لم يتغيّر طعمه وانهار من خمر لذّة للشاربين وأنهار من عسل مصفّى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربّهم كمن هو خالد في النّار وسقوا ماء حميما فقطّع أمعائهم" (محمد/15).
· في الدنيا
إنّ هذه الحال التي سيكون عليها الكفّار يوم القيامة هناك صورة مصغّرة لها في هذه الدّنيا وفيما يلي بعض الأمثلة:
- غرق قوم نوح: كذبوا نبي الله نوحا عليه السلام وقالوا عنه مجنون وزجروه بشدّة فازدجر وكفّ عن دعوى الرّسالة فدعا ربّه بأنّه مغلوب على أمره ففتح الله أبواب السّماء بمطر غزير منصب بشدّة وتتابع وشقّ عيون الأرض بالمياه، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قضى به في الأزل وقدره الله وهو الطوفان على "أمر" وهو إغراقهم... يقول عزّ وجلّ: "كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربّه إنّي مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السّماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر" (القمر/9-12)، "قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين، قال ربّي إنّ قومي كذبون، فافتح بيني وبينهم فتحا ونجّني ومن معي من المؤمنين، فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون، ثم أغرقنا بعدُ الباقين، إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين" (الشعراء/116-121).
ويقول تعالى: " وقوم نوح لمّا كذبوا الرّسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية واعتدنا للظالمين عذابا أليما" (الفرقان/37).
فالله لما استنجد به نوح عليه السلام أوحى إليه أن اصنع السفينة بحفظه وعنايته وإرشاده وتعليمه إيّاه وأمره بأن يحمل في السّفينة من كلّ أنواع الحيوان صنفين: ذكر وأنثى، ليستمرّ توالد الحيوان وتبقى الحياة في الأرض ثمّ كتب على الذين ظلموا الغرق والموت.
- غرق فرعون وجنده وترك العيون والجنان: يقول عزّ وجلّ: "فدعا ربّه أنّ هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنّهم جند مغرقون، كم تركوا من جنّات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين" (الدخان/22-28)
وقال الله تعالى في سورة الذاريات: "وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ وهو مُليم" (الذاريات/38-40)
ويقول عز جلّ مبينا أن الإغراق كان سبب الإفراط في العصيان والفساد وإغضاب الله: "فاستخفّ قومه فأطاعوه أنّهم كانوا قوما فاسقين فلمّا آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين" (الزخرف/54-55).
فعاقبة الظلم والكفر تكون دائما وخيمة بمقتضى النواميس الإلهية : "فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين". (القصص/40).
الفهرس
تمهيد
الماء وأصل الحياة
أ- الماء أصل الحياة
ب- الماء أصل خلق الإنسان
ت- الماء أصل خلق الدواب
نتيجة أولى: الماء دليل على وحدانية الخالق (لأن وحدة أصل الأشياء يبرهن على وحدة خالقها).
الماء وقضية البعث
أ- بداية خلق الإنسان من تراب
ب- إحياء الأرض الميتة بالماء
نتيجة ثانية: الماء برهان على يوم البعث (لأن إحياء الأرض الميتة يضاهي إحياء الموتى يوم القيامة)
الماء اصل كل الخيرات في الدنيا والاخرة
· في الدنيا
أ- طعام الإنسان أصله من ماء
ب- استخرا الزينة والحلي من البحر
ج- الماء إحدى المعجزات وحجة على الكفار
د- الماء فيه شفاء من بعض الأسقام
· في الآخرة
أ- الماء مكوّن من مكونات الجنة
الماء وسيلة يعاقب الله بها الكفار
· في الآخرة
· في الدنيا
الخلاصة
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire