«زمن الانحطاط العربي» مقولة مختصرة لكنها معبرة، تعبر عن المرارة التي أضحى يشعر بها المفكر في البلاد الإسلامية وهو يرى أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية... تزداد سوءا وانتكاسا على مر الأيام.
يحدث كل هذا بعد أن شهد ت البلاد الإسلامية جمعا من المصلحين والمفكرين الذين تخصصوا في شتى المجالات (1).
إن هذا الوضع الذي آلت إليه حالنا يحتم علينا أن نطرح السؤال التالي: ما هي الأسباب الكامنة وراء فشل البرامج الإصلاحية التي أخذت تظهر منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي! ؟
أسباب الفشل:
إن المتتبع لمؤلفات رواد النهضة في بلادنا الإسلامية يلاحظ أن الانبهار بما حققته الحضارة الغربية كان عظيما في نفوسهم والانشداد إلى النمط الغربي في الحياة واضحـا وجلـيا(2) وهذا الانبهار بمنجزات الغرب جعلهم يتخذونه قدوة ومثالا، فكان النمط الغربي النهضوي حاضرا لدى جل هؤلاء الرواد(3) لذلك جاءت برامجهم الإصلاحية وتنظيراتهم تنقصها الدراسة العلمية المتأنية التي تراعى فيها الملابسات والظروف التي أدت بأمتهم الإسلامية إلى حالة من التخلف والانحطاط الحضاري.
ولا عجب بعد ذلك أن نجد منهم من يدعو إلى «أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها وحلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب» (4).
إن الصفة المشتركة التي جمعت زعماء الإصلاح هي«افتقار الشعور بالعزة بهويتهم الحضارية الإسلامية، والانبهار الكلي بالغرب» وهذا الانبهار قد أعشى أبصارهم أن ترى الدّرب القويم والنهج السليم لنهضة أمتهم الإسلامية وبناء حضارة إسلامية جديدة تليق بخير امة أخرجت للناس وقد كلفها ربها بأن تكون شاهدة على الناس إن هي استمسكت بالنور الذي انزله الله عليها –القرآن- والتاريخ:«يعلمنا انه ما من مدنية تستطيع أن تزدهر أو تظل على قيد الحياة إذا هي خسرت إعجابها بنفسها وصلتها بماضيها»(5).
نظرة تاريخية
الإسلام ومرحلة الفكرة والمفاهيم الجديدة:
جاء الإسلام معلنا منذ بداية نزول الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن بداية ظهور نظرة مغايرة لما هو سائد بين البشر ومفاهيم جديدة للكون والإنسان والحياة، تختلف جذريا عما تعلمه الإنسان من مصادر بشرية ومعلنا بوضوح مخالفته لسائر التصورات(البشرية المساوية للجاهلية في المنظور القرآني): ثقافتها ومعتقداتها أخلاقها ومعاملاتها، نظمها وتشريعاتها:« اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم » (سورة العلق الآيات 3 و4 و5).. ليبرز بعد عملية الهدم مباشرة شخصيته المستقلة بكل أبعادها العقائدية والتشريعية ومختلف تصوراتها وطموحاتها على أنقاض الجاهلية (كلّ مفاهيم الإنسان عن الكون والإنسان والحياة التي تخالف المفاهيم الإلهية) والتي أعلن الحرب عليها منذ الوهلة الأولى:«كلاّ لا تطعه واسجد واقترب» (سورة العلق وهي أول ما نزل من القرآن الآية 19).
إن مراجعة بسيطة للنهج الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في إحداث التغييرات الجذرية التي هزت جزيرة العرب يلاحظ ما يلي:
- بداية نزول الوحي على الرّسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء وقد حمله ربه مسؤولية التبليغ وإيصال ما سيوحى إليه من قيم ومبادئ ومفاهيم جديدة عن الكون والإنسان والحياة إلى الناس كافة بدءا بالعشيرة الأقربين.
- الجهر بالدعوة الإسلامية وتحمل الأذى والصبر على تعنت الكفار وإجرامهم في حق أتباعه من المؤمنين برسالته.
- نزول ما سمي (بالقرآن المكي ويعد 86 سورة ) وهو في جملته آيات قصيرة تعالج قضايا توحيد الله وتحارب الشرك بالله بمختلف تشكلانه وتشير إلى مواطن الفساد في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وترد على بعض شبهات أهل الكتاب ومزاعم أهل مكة وتندد بتصرفاتهم المنحرفة وتصحح مفاهيم البشر عن الألوهية الحقة والربوبية الصحيحة والتي لا تجوز إلاّ لخالق الكون والإنسان والحياة العليم الخبير الذي يعلم غيب السّماوات والأرض... فالقرآن المكّي كان يدعو إلـى – فكرة جديدة ومفاهيم مغايرة لمفاهيم البشر– لتحل محل الفكر والمفاهيم والمعتقدات الجاهلية في ذهن المتقبل حتى تؤثر في فكره ووجدانه تمهيدا للانتقال به إلى مرحلة أخرى قادمة.
- كان الرّسول صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه الذين آمنوا بدعوته بالصّبر على الأذى والتنكيل الذي كانوا يتعرضون له على يد كفار قريش وعدم الرد بالعنف على الاضطهاد الذي كان يسلط عليهم – رغم استعداد بعض الصحابة للقيام بذلك... ولما اشتد الاضطهاد على بعض الصحابة نصحهم عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى الحبشة لان بها ملكا لا يظلم الناس عنده أبدا.. وقد استمر الرسول وأصحابه في الاستمساك بالمفاهيم الالاهية الجديدة والالتزام بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ومجادلة الكفار والمشركين وكل المناوئين بالتي هي أحسن. ولم يسجل لنا القرآن أو المؤرخون أن أحدا من الصحابة قد كون عصابة للرد على اضطهاد قريش أو تحرير البيت الحرام من أيدي كفار مكة ومشركيها.. بل كان سلاح المؤمنين الوحيد: الدعوة إلى الإسلام الحق والجهاد بآيات القرآن الكريم والتي تحمل المفاهيم الجديدة وإبلاغها إلى مسامع المشركين والصبر على إذا هم امتثالا لأوامر الله في القرآن المكي-سور القرآن التي أوحى الله بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة-.
- ثم جاءت حادثة الإسراء بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم لتتوج المرحلة المكية *مرحلة الفكرة والمفاهيم الجديدة*، وأهم ما يمكن استخلاصه من حادثة الإسراء هو بداية تلقي المسلمين لبعض التشريعات والعبادات كالصلاة وهي تشريعات عملية تستوجب توفر الأمن للقيام بها وهو ما يعني حدوث نقلة نوعية كبيرة، لان المرحلة المكية التي سبقت حادثة الإسراء تميزت بتركيز القرآن على المعتقدات الإسلامية والمبادئ الذهنية والمفاهيم الجديدة عن الكون والإنسان والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقيم الأخلاقية ومحاربة التمظهرات المتنوعة للكفر والشرك والتشهير بانحرافات زعامات قريش العقائدية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.. وهذا يعني أن حادثة الإسراء كانت بمثابة التمهيد للإعلان عن انتقال المسلمين من مرحلة «الفكرة» إلى مرحلة « الدولة».
الإسلام ومرحلة الدولة:
بعد حادثة الإسراء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وقد مهّد عليه الصلاة والسلام لهجرته وهجرة أصحابه عندما التقى بالأنصار – الاوس والخزرج- وأخذ منهم عهدا بحمايته وحماية أصحابه ونصرة الدين الذي بعثه الله به إلى الناس كافة وكان قد سبقه بعض صحابته إلى المدينة لتوضيح الغامض من دعوته..
- في المدينة أصبح للمسلمين أرض آمنة وقد امن جل أهلها بالرسالة الإسلامية وثروات متعدّدة وقوّة مادية استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بما اوتيه من حكمة الاهية وبصيرة قرآنية من أن ينشئ منهم مجتمعا مسلما يعتنق العقيدة الإسلامية ويحتكم إلى الشريعة الإسلامية في علاقات إفراده بعضهم ببعض وتنتظم علاقاته وفق التصور الإسلامي والمفاهيم الإسلامية في الأسرة والمجتمع وعلاقاته الداخلية والخارجية... ثم كون الرسول \ القائد جيشا قوامه مؤمنون باعوا أنفسهم وأموالهم لله رب العالمين مقابل الفوز بجنة عرضها السماوات والأرض..« إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم » (سورة التوبة الآية 111)... إن تكوين الجيش الإسلامي جاء بعد تكوين الدولة الإسلامية لحمايتها من الأعداء المتربصين.
- ولم يمر زمن طويل حتى إذن للذين أوذوا في سبيل الله بالقتال واستعمال السلاح لاسترجاع حقوقهم المنتهبة من الكفار والمشركين وصد عدوانهم ومكرهم بالمسلمين..
- في مرحلة تالية بدا المسلمون- بقيادة رسولهم عليه الصلاة والسلام- يفكرون في نشر الدعوة الإسلامية خارج حدود دولتهم الفتية، وبدا الرسول \ القائد السياسي والعسكري في بعث السرايا والجيوش إلى مختلف الأصقاع لفتحها ونشر الإسلام فيها حتى تعم رحمة الإسلام الناس كافة.... استجابة لنداء "القرآن المدني".
إن هذا التسلسل الذي اتبعه الرسول \ القدوة صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نشر الدعوة الإسلامية ومن ثم بناء الحضارة رغم وضوحه في السيرة النبوية (6)قد تغاضى عنه المسلمون في العصر الحديث فغابت عنهم الأولويات مما أوقعهم في المحظورات وأبعدهم عن هداية الله.
الرأسمالية الغربية
لقد مثلت الحداثة الغربية – قطيعة تامة بين عهود الظلام السابقة وبين ما سمي بفلسفة الأنوار التي نادت بتحرير الإنسان من سلطة الكنيسة وجبروتها وحرضته على امتلاك زمام أموره وكسر القيود الذي فرضته عليه عهود من الجهل والانحطاط، فلقد استفاق الأوروبيون فوجدوا ركاما ضخما من التجارب والمعارف التي خلفتها حضارات عديدة بما فيها الحضارة الإسلامية، فأغراهم ذلك بالتمعن فيها بحثا عن السبيل الموصل إلى البناء الحضاري والتقدم والتحرر من جهالات رجال الدين عندهم. وما انفك هذا الشعور يتنامى في أوروبا منذ القرنين الحادي عشر الميلادي والثاني عشر خصوصا في فرنسا وايطاليا...
وانتبه الغربيون بعد هيمنة طويلة فرضتها الكنيسة الكاثوليكية واثر تزايد قهر الأباطرة، وصار بعض المفكرين يتحسسون طريق الخلاص من تبعات عصور الانحطاط. وكان لتضخم ممارسات الكنيسة الكاثوليكية ولاستفحال السياسة القهرية التي ينتهجها الأباطرة دور كبير في تصعيد الاستياء وتنمية رصيد الشعور الرافض بعد يقين عمقته الملاحظة بان ممارسات الاكليروس ومقررات البابا فاقدة للمصداقية لأنّها تتضارب مع حقائق الوجود وتطلعات الإنسان نحو الإنعتاق... فهي تفرض وصايتها عليه!؟ وكان للجامعات أللاهوتية التي وقع بعثها في بعض أقطار أوروبا كالسربون مساهمات في المجال المعرفي وتأثيرات حتى في الكنيسة ذاتها(7).
إن فقدان الشّرعيات الدّينية مصداقيتها ليس فقط بالنّسبة إلى بعض المثقفين...
ولكن في الشرائح العريضة للمجتمعات الغربية بأسرها هو الذي ولد مفهوم العلمانية الداعي إلى تخليص قطاعات المجتمع والثقافة من سيطرة المؤسسات الدينية ونواميسها.. وقد سعى مفكرو عصر الأنوار(8) إلى تنوير الشّعب وتحريره من ظلم الكنيسة وجبروتها، فرفعوا في وجه الكنيسة التي كانت تبيع صكوك الغفران – "اللائكية"، وفي وجه رجال الدين واستغلالهم للشعب باسم الرب، رفعوا" الحرية والإخوة والمساواة"..
إن إزاحة الغربيين لتأثيرات الكنيسة عن مجرى حياتهم نظرا لما أصبحت تمثله من عقبات كأداء أوجد لديهم الحافز الـقوي علـى البـحث والتنـقيب واستنباط النـظم السياسية والاقتصادية والنظريات العلمية والمعرفية وغيرها بمعزل عن تأثيرات قرون من التخلف والجهل.. والذي ساهمت فيه بقسط وافر قناعات رجال الدين المسيحي الضالة عن وحي الله وكلماته في التوراة والإنجيل والقرآن..
الماركسية
عاش ماركس(1818-1883)ضمن المجتمع البرجوازي، وعاين عن قرب أوضاع العمال المتردية، ذلك أن العامل رغم قيامه بالعمل والإنتاج إلا انه لا يتمتع بثمار سواعده، حيث أصبحت الطبقة البرجوازية الرأسمالية هي المالكة" بل المغتصبة لما ينبغي أن يكون ملكا للعمال من وسائل الإنتاج "...يقول ماركس في معرض تحليله للأوضاع المتردية التي أفرزتها الطبقة البرجوازية:« إن البرجوازية لم تكتف بصناعة الأسلحة التي سوف تؤدي إلى فنائها بل أنجبت الرجال الذين سوف يستعملون هذه الأسلحة – اعني بهم عمال العصر الحديث - الذين يؤلفون البروليتاريا وكلما ازدادت قوة البرجوازية أي رأس المال ازداد نمو البروليتاريا، تلك الطبقة التي تضم العمال الذين لا تتوفر لهم أسباب العيش إلاّ إذا وجدوا عملا، ولا يحصلون عليه إلا إذا كان هذا العمل منميا لرأس المال. فهؤلاء العمال الذين يضطرون إلى عرض أنفسهم للبيع يوميا هم معرضون نتيجة لذلك إلى كل تقلبات المنافسة التي تعتري السوق... لقد صار العامل فقيرا وتفاقم الفقر بسرعة تفوق سرعة نمو السكان وتراكم الثـّروات... فمن البين إذن أن البرجوازية لم يعد في إمكانها القيام لمدة طويلة بدور الطبقة المسيرة (9)تكشف لنا هذه الوثيقة عن وعي ماركس بالظلم والحيف الاجتماعي الذي يعاني منه العمال في مجتمع تسوده الأنانية والاستغلال وسلوك كل السبل للإثراء ولو على حساب فقر الملايين من العمال.لا تهمنا هنا تحليلات ماركس وتنبؤاته الخاطئة فذاك أمر آخر! ما يهمنا هو الموقف الفكري والسلوك الحضاري الذي انتهجه تجاه واقع معين...تبنى ماركس إذن هموم العمال ومشاكلهم، وسعى إلى إنشاء منظومة فكرية تمثلت في نظريته – المادية التاريخية – ذلك أنها تقوم على مبدأين أساسيين: هما المادية المنطقية والمادية التاريخية. ذلك أنها تنظر إلى المادة على أنها أساس كل أمر في الحياة، وأن البشرية مسيرة في مختلف أطوارها بتأثير المادة فقط (10) يقول ماركس موضحا ذلك: « إن الأفكار لا يبتدعها دماغ الإنسان... وهذا الدماغ ليس إلا مادة دقيقة التركيب وهو جزء من الجسم يعكس مؤثرات العالم الخارجي »(11).
شنّ ماركس وأتباعه حملة منظمة ضد النظام الرأسمالي وكل مبادئه وقيمه طارحين بدائل أخرى وقيما جديدة، ومبشرين بإيجاد جنة أرضية يحكمها الكادحون والعمال والفقراء – ففي جريدة البرافدا ركز لينين حملاته تحت شعار: « كل السلطة للسفيات * الأرض للفلاحين... الخبز للجائعين...
وفي أكتوبر سنة 1917 قامت الثورة البلشفية، الثورة التي أنبنى على أساسها ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي..
بعد هذا الاستعراض السريع لثلاث حضارات مختلفات.. نعود لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: ما هي السنن والقوانين التي تتحكم في إقامة الحضارات الإنسانية ؟
بناء الحضارة:
إن استقراءنا للحضارة الإسلامية والحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي والماركسي يمكننا من بلورة السنن والقوانين التي تتحكم في إقامة الحضارات في النقاط التالية:
1- فكرة إنسانية سامية:
وهذه الفكرة يمكن أن تكون دينا سماويا أو بشريا أو منظومة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية... تحمل في طياتها صفة العالمية واستطاع مفكرو الشعب أن يقنعوه بان فكرته التي يتبناها هي أسمى فكرة على الإطلاق وأن هذه الفكرة لا تحمل سعادته هو فقط بل مرشحة لإنقاذ البشرية كافة، وتستحق هذه الفكرة أن يضحي الشعب من اجلها ويغامر حتى تتجسد على ارض الواقع، ثم نقلها إلى بقية شعوب العالم لتستفيد منها وتخرجها – من الظلمات إلى النور- ومن الاستغلال إلى التمتع بخيرات الحياة وطيباتها... ومن الجور والظلم إلى العدل والمساواة... ومن ظلمات القرون الخالية إلى نور الحياة ورفاهيتها.إن أي برنامج إصلاحي أو منظومة فكرية عاجزة عن تحقيق النهضة المنشودة في الشعوب إن لم تكن تحمل في طياتها هذه السمة، وعجزت عن إقناع الشعب الذي يتبناها بسموها وتفوقها على كل الأفكار والمنظومات الأخرى.
2 - تقزيم الخصم والحط من فكره وقيمه(12)
وهذا القانون هو مواصلة للقانون الأول في شروط إقامة الحضارات إن تقزيم الخصم والحط من قيمة منظومته الفكرية عملية تأتي مواصلة للعملية الأولى وهدفها الوصول بالشعب المراد إنهاضه إلى مرحلة الشعور بالعزة وهذا الشعور يأتي كنتيجة حتمية لاعتقاد هذا الشعب بسمو فكرته ومعتقداته ومنظومة القيم التي تحكمه والتي تفوق في سموّها جميع القيم والمعتقدات والمفاهيم الأخرى، بل قد لا يعطي هذه المفاهيم أهمية البتة ما دام يملك ما هو أسمى.. وهذا يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى تماسك أفكاره وصدقها وتطابقها مع الواقع وقدرتها على الإقناع ومدى اعتقاده فيها وحنكة مفكريه وقدرتهم على تشويه الخصم وأفكاره ومعتقداته..
نخلص إلى القول بأنّه متى توفرت لدى أي شعب من شعوب الدنيا منظومة فكرية تحتوي على فكرة سامية واقتنع هذا الشعب بأنها أعظم فكرة على الإطلاق في تلك الفترة من الزمن واقتنع بوجوب نشرها والتضحية في سبيل إيصالها إلى الشعوب الأخرى...عندها يبدأ ذلك الشعب بصفة تلقائية يسير رويدا رويدا نحو النهضة ومن ثم تكوين حضارة متفوقة على ما عداها من الحضارات القائمة... والسبب في ذلك يعود إلى أن إدراك هدا الشعب لسمو فكرته وعالميتها يدفعه إلى البحث والتنقيب في كل المجالات الحياتية والعلمية لإثبات سمو فكرته عمليا للآخرين كي يعتنقوا مثله القيم التي يؤمن بها من جهة، وإقناع خصومه بتفاهتهم ومحاولة " تقزيمهم" أمام عظمة فكرته وتكاملها وقدرتها على إسعاد الناس جميعا. كما تدفعه إمكانية مواجهة الخصم ماديا إلى الاعتناء بالمجال الاقتصادي والصناعي وتكوين جيش قوي لمجابهة كل التحديات الممكنة والتي يمكن إن تهدد فكرته..
وهكذا تبدأ حضارة هذا الشعب صاحب الفكرة والمفاهيم السامية الجديدة في صعود، أما أصحاب الحضارات الأخرى، إن كانت هناك حضارة قائمة فإما أن ينظموا إلى أصحاب الحضارة الصاعدة ويعتنقوا فكرتها السامية ويساندوها ويدعموها بمعارفهم وبالتالي تصبح إنجازاتهم تنتمي إلى الحضارة الجديدة. وإما أن يتزعزع اعتقادهم في فكرتهم التي بنوا عليها حضارتهم، فيفتقدون بذلك الحماس القادر على تمكينهم من مواصلة الإبداع وبناء الحضارة، عند ذلك تبدأ حضارتهم في أفول مستمر...وتضعف قوتهم المادية والمعنوية شيئا فشيئا أمام القوة الصاعدة والحضارة الجديدة.. كما يصبح الشعب صاحب الحضارة الآفلة مقلدا لظواهر وسلوكيات صاحب الحضارة الصاعدة، اعتقادا منه أن هذا التقليد قد يعيد فيه الحيوية من جديد– لكنه يبقى كالذي يريد أن ينجو من الغرق وما هو بناج، لأنه كلما اغرق في التقليد ابتعد أكثر عن إمكانية الشعور بالعزة، فتتبعثر أموره وتتذبذب حاله ويصبح كالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن لم تحمل عليه يلهث..
الخاتمة
ظلّ " المفكرون وزعماء الإصلاح " في البلاد الإسلامية يعتقدون طويلا بان الأنظمة والتشريعات السياسية والاجتماعية هي التي ستنهض أمتهم من كبوتهم، فاقتبسوا أنظمة الغرب وتشريعاته، لكن دون جدوى... وما دروا انه على الرغم من تنوع الأنظمة والتشريعات قامت الحضارات العديدة في التاريخ الإنساني .
إن القوانين والتشريعات ما هي إلا شكل من أشكال التنظيم في المجتمعات البشرية وتنبع عادة من حاجيات هذه المجتمعات وطموحاتها وتنبثق عن منظوماتها القيمية والفكرية ومفاهيمها عن الكون والإنسان والحياة .. وليس هناك أي سند تاريخي أو واقعي يدل على أن الحضارة تبنى نتيجة لهذه القوانين والنظم والتشريعات وإنما هو التباس الأوضاع وضبابية الرؤيا.
-----------------------------
المراجع
1* (أمين)احمد: زعماء الإصلاح في العصر الحديث بيروت – دار الكتاب العربي 1979.
- ( شرابي)هشام: المثقفون العرب والغرب بيروت – دار النهار 1973.
2* انظر كتاب الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة د نازك سابايارد الطبعة الأولى 1979.
3 *نفس المرجع
4 *مستقبل الثقافة بمصر د طه حسين .
5 *الإسلام في مفترق الطرق تعريب عمر فروج .
6*راجع مثلا: دراسة في السيرة للدكتور عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة 1981.
7* كارل ماركس" بيان الحزب الشيوعي"
8*(يكن)فتحي:كيف ندعو إلى الإسلام ص55
9*خفاجي المحامي (عبد الحليم )حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون ص55
10*المرجع. العلمانية وانتشارها غربا وشرقا ،فتحي ألقاسمي – سلسلة موافقات –الدار التونسية للنشر – فيفري 1994)
11*فولغين(ف)فلسفة الأنوار- بيروت – دار الطليعة ط1981
12*يقول الله عز وجل : « الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » - (سورة البقرة الاية257 )
* ويقول فولتير احد زعماء التنوير الأوروبي: إن محمدا ولد أميرا واستدعي لتسلم مقاليد الأمور عن طريق الناس له ... ولو انه وضع قوانين سليمة ودافع عن بلاده، لكان من الممكن احترامه وتبجيله ولكن عندما يقوم راعي ابل بثورة ويزعم انه كلم جبريل وانه تلقى هذا الكتاب غير المفهوم الذي تطالع في كل صفحة منه خرقا للتفكير المتزن حيث يقتل الرجال ويخطف النساء لحملهم على الإيمان بهذا الكتاب، مثل هذا السلوك لا يمكن أن يدافع عنه إنسان لم تكن الخرافات قد خنقت فيه نور الطبيعة.
*ويقول ماركس:« إن كل دين ليس سوى الانعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي»
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire