رغم مرور أكثر من قرنين منذ أن غزا بونابرت مصر سنة 1798م فان سؤال ‹‹كيف نتقدم؟››لا يزال يطرح بأشكال متعددة..
فمنذ تلك الغزوة بدا المسلمون يفركون عيونهم بعد نوم عميق كان سببا في إخراجهم من حلبة التنافس الحضاري لزمن طويل.. وقد اختلفت المقاربات وتنوعت في كيفية امتلاك منابع القوة والقدرة على الفعل وصنع أحداث التاريخ مرة أخرى كما كان أجدادنا يفعلون منذ انبلاج فجر الإسلام العظيم. فهم قد امتلكوا ناصية الأمم لردح طويل من الزمن وقادوها بالنور الذي انزله الله على امة الإسلام رحمة للبشرية كافة..
لقد أضحت قضية ما صار يعرف ب" الحداثة " قضية محورية مزمنة في تاريخ المجتمع العربي الإسلامي الحديث، ولم تتوضح الحلول المقنعة لجميع الأطراف إلى حد الآن..
وفيما يلي سأحاول تقديم مقاربة لقضية الحداثة الإسلامية عساي أساهم ولو بلبنة في المضي قدما للحسم في هذه القضية الشائكة....
فماذا نقصد بالحداثة تحديدا ؟
ما نعنيه بالحداثة هو: ‹‹ ذلك الصراع المحتد بين الأمم من اجل آن تكون امة هي الأقوى والأغنى والأوربي من بقية الأمم.. وامتلاك القدرة على التغيير الذاتي والتطوير المستمر نحو الأفضل لجميع هياكلها المسيرة، ويحصل أهلها على الأمن من الاعتداءات، مطمئنة مستقرة لا يخاف أهلها ولا يضايقهم شيء.. ".يأتيها رزقها رغدا من كل مكان"...››
وعلى النقيض من ذلك فان الأمة المتخلفة هي تلك التي يعيش أفرادها الجوع والحرمان والفزع والهلع ويشتد ألمهم علي مر الزمان، كما يكثر التطاحن والاجتماعي والصراع بين أفرادها!!...
فما هو السبيل لبناء حداثة إسلامية جديدة ؟
لقد احتاجت الشعوب التي استطاعت تشييد حضارة وقيادة الأمم في مرحلة زمنية معينة وتتوفر على معاني الحداثة التي حددناها آنفا إلى‹‹فكرة إنسانية سامية›› تأخذ بالألباب وتبهر العقول وتثير العواطف الإنسانية وتحرك الحواس الناعسة...فلقد حمل العرب المسلمون فكرة ‹‹إخراج الناس من الظلمات إلي النور››... ورفع الغرب شعار ‹‹تخليص الإنسان من القصور الذي كبلته به الكنيسة بوصايتها عليه والدعوة إلى الحرية والأخوة والمساواة››.. ووعد الاشتراكيون أتباعهم ب‹‹إيجاد جنة أرضية للعمال المسحوقين››...
وهكذا احتاجت هذه الحضارات الثلاث: (الإسلامية والغربية والاشتراكية)إلى:‹‹ فكرة إنسانية سامية›› لتجلب إليها الأنصار وتضمهم إلي صفوفها وتجعلهم مستعدين للنضال والتضحية في سبيل إنزال هذه ‹‹الفكرة السامية›› إلي الواقع المعيش ليحيا في ظلها الناس، بل وكان أنصار هذه الفكرة يغزون أو يفتحون أو يستعمرون الأصقاع باسم هذه ‹‹الفكرة الإنسانية السامية››... ولقد مثلت ‹‹ﺍﻠﺣﺪﺍﺜﺔ›› دائما قطيعة تامة بين عهدين، عهد الظلمات والمظالم والتخلف وعجز الإنسان عن الفعل الايجابي والغيبوبة التاريخية، وبين عهد جديد يتحرر فيه هذا الإنسان من سلطة التراث والتبعية والتقليد الأعمى لهذا الطرف أو ذاك وامتلاك زمام النفس والمبادرة وكسر القيود ـ بمختلف تشكلاتها التي تكبله.... وتمنعه من التحاور مباشرة مع واقعه، واختيار أنجع الطرق والوسائل والتقنيات لتجاوز الموروث سواء أكان هذا الموروث ينتمي إلي حضارة الأجداد أو حضارات الأمم الأخرى، قديما كان أو حديثا..
فالإنسان‹‹الحداثي›› هو ذاك الذي يمتلك القدرة الفائقة علي الاستفادة من الموروث الإنساني في جميع الميادين متحررا من كل ما يعيقه عن الإضافة والإبداع والتجاوز ومزيد بسط سلطته وهيمنته على الكون والحياة والارتقاء بأخيه الإنسان إلى السيادة المطلقة على كل شيء في هذا الكون الشاسع، حتى يتفرغ بعد ذلك لعبادة خالق الكون والحياة، فالإنسان سيد وحيد لهذا الكون والله رب وحيد للإنسان، فلا يخضعن هذا الإنسان لسلطة أخرى مهما كان مصدرها...سوى لسلطة الله خالق الكون والحياة والإنسان... وهو(الإنسان)في كدح متواصل حتى يلتقي بالملا الأعلى.. وقد أفرغ جميع شحناته وطاقاته وقدراته في هذه الأرض التي قبل أن يكون سيدا عليها وعبدا لخالقها وحاملا لأمانة الله في الأرض:« أنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا ».
لقد ابتلي المسلمون قديما وحديثا بمن حول أحداث التاريخ وتجارب المسلمين السابقة إلي صنم / عائق يتعبدون في محرابه مرددا قول العرب القدامى في مواجهتهم للإسلام:‹‹ما سعنا بهذا في آبائنا الأولين›› و‹‹إنا وجدنا آبائنا علي امة وإنا علي أثارهم مقتدون ›› متناسين التزامهم بتوحيد الله والخضوع لربوبيته بما يعني عدم خضوعهم إلاّ لأوامر الله ونواهيه والسير على هدي القرآن العظيم. وقد حالت هذه المواقف المتخلفة بيننا وبين الحداثة الحق والتقدم السليم ورؤية ما يدور حولنا من أحداث متجددة ووقائع حياتية معاصرة تفرض علينا حلولا أخرى غير التي ارتآها أجدادنا لتغير الملابسات ! وكل هذا يتطلب اجتهادا وإعمالا للعقل لاستنباط الحلول الملائمة للمشكلات المعيشية والحياتية التي تواجهنا في حياتنا الدنيا وتعيق بلداننا عن النهوض والتقدم وتحقيق العزة والشهادة على بقية الأمم والشعوب بما نمتلكه من ثوابت الاهية/آيات / بصائر في الكون والإنسان والمجتمع تهبنا القدرة على معرفة السلوك القويم في مختلف دروب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها...
كما ابتلينا بمن اتخذ منجزات الغرب وحضارته صنما/عائقا يعتقل عقلنا ويمنعنا من فهم متطلبات حياتنا وتحقيق سيادتنا على حاضرنا ومستقبلنا. وقد حال كل ذلك بيننا وبين الاعتماد على النفس لتحقيق إنجازاتنا الحضارية الخاصة بنا حتى نكون أهلا لقيادة العالم من جديد.
فما نملكه من ثوابت إلهية في جميع ميادين الحياة يعطينا الحق في قيادة الشعوب – إن نحن استمسكنا بها- والتصدر لتوجيهها نحو الخير والفضيلة حتى نكمل رسالة من ابتعثه الله رحمة للناس كافة..
إن الإبداع الحضاري والابتكار والتقدم مرهون إلي حد كبير بثقة الإنسان في صحة مبادئه واعتقاده في تفوقها على جميع المبادئ الأخرى، وإن ما نتج عن الحضارة الغربية إلي حد الآن من تعميق للهوة بين الفقراء والأغنياء ومن احتجاجات عالمية عن ‹‹الكيل بمكيالين ›› وما نراه ونسمعه من تطاحن رهيب وتقاتل على الحكم والمسؤولية باسم الديمقراطية الغربية.. وعدم استقرار للمجتمعات الغربية نفسها، وانتشار للظلم والعنصرية والحروب المدمرة واستفراد أقلية بالثروات الكونية... كل ذلك يجعل من إقناع الأمة الإسلامية بصحة هذه المبادئ والقيم الغربية أمرا متعذرا إن لم يكن مستحيلا، خاصة وهي الوارثة للقرآن العظيم الذي لم يثبت إلي حد اليوم أنه يحتوي على آية واحدة من شانها أن تعرقل التطور أو تقف في وجه الإبداع الحضاري في مختلف الميادين، لأن هذه الآيات لم تعالج مطلقا متغيرات الحياة البشرية وإنما نصت جميعها علي الثوابت/الحقائق التي تتطابق مع الواقع في الكون والحياة والإنسان وهي معادلات تخترق الزمان والمكان. وقد تركت هذه الآيات حرية الإبداع والاجتهاد في كل المتغيرات المعيشية التي يمكن أن تطرأ على حياة الإنسان بشرط استلهامه هذه الحقائق في اجتهاداته المختلفة. ففي قضية العلم مثلا نجد النص القرآني لم يحدد مطلقا الوسائل والأساليب التي يمكن أن يتبعها الإنسان لتحصيل العلم واختراق الآفاق وتحقيق الاكتشافات لأنها متغيرة بتغير الزمان والمكان وبحسب اجتهاد الإنسان وحاجاته، لكنها أجمعت كلها على ضرورة طلب العلم وجعله مفتاحا لكل ما يفيد الإنسان في دينه ودنياه، وفي السياسة نص القرآن علي وجوب الشورى في جميع ما يهم شؤون المسلمين الخاصة والعامة وحث المسلمين علي العدل واجتناب الهوى والحكم بما انزل الله في كتابه العزيز وعدم التمييز بين الناس:«يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» (سورة المائدة الآية 8 )، وتحريم الفساد في الأرض أو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أو جعل ثروات البلاد -التي هي ملك لله - دولة بين الأغنياء... وطالب باشتراك المسلمين جميعا في تحمل المسؤولية وتكوين: "أمّة" تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتتبع ما أوحى الله به إلى محمد صلى الله عليه وسلم /قدوة كل من أسلم وجهه لله رب العالمين، خلال مرحلتين: مرحلة الدعوة(المرحلة المكية)ومرحلة الدولة(المرحلة المدنية ).. وهكذا دواليك.... ودور الإنسان أن يعتمد هذه الثوابت المعلنة لاستنباط المؤسسات الكفيلة بإنزالها إلي حيز الواقع المعيش حتى ينعم الناس - جميع الناس- برحمة السماء ويأمنوا على حياتهم وأرزاقهم ومكتسبا تهم ويمتلكوا القدرة علي الإضافة والإبداع ويواصلوا أداء رسالتهم في الحياة.. يقول الله عز وجل :‹‹قل لوكان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ›› ﴿الكهف الآية عدد 109 ﴾ فما الذي أصابنا في العصر الحديث حتى صرنا عاجزين عن استنباط ما يلزمنا من حلول لإصلاح معيشتنا انطلاقا من آيات الله التي لا تنفذ معانيها أبدا وصرنا نتخبط خبطا عشواء معرضين عن نور الله!؟
إن اقتحام أ متنا لعصر العولمة باقتدار وجدارة وامتياز، رهين لشروط وقرائن لأبد من استحضارها جميعا حتى نفوز بقصب السبق في جميع الميادين الحضارية:
* إذ لابد من استعمال عقولنا وحواسنا نحن لمواجهة مشكلاتنا الحياتية، واستنباط ما يلائمنا من حلول لمختلف مشكلاتنا بما يتوافق مع مصلحتنا حاضرا ومستقبلا مستندين في ذلك إلى كتاب الله، بدلا من استنساخ الحلول القادمة من وراء البحار وإسقاطها على شعوبنا المسلمة والكف عن استعارة عقول ‹‹الآخرين /الأعداء›› وطرق تفكيرهم ومناهجهم في بحث المشكلات العالقة...
*لا بد من استحضار الواقع المعيش بكل تجلياته وتعقيداته.. ولا فائدة من ستر أمراضنا مهما كان الداء مستحكما بدعوى الحفاظ على أسرارنا وعيوبنا حتى لا يستغلها الأعداء !!؟ إن منطق التستر على الآفات التي تكدر صفو حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية والعلمية وغيرها قد زاد الطين بلة حتى صارت الجراثيم تصول وتجول وترتع حيثما شاءت وتعفن ما قدرت على اقتحامه من حياتنا حتى بدا لنا العلاج متعذرا لشدة ما فتكت بنا الأمراض وألحقته في نفوسنا من أذى وفي أجسادنا من جراح مثخنة. وكل هذا يتطلب وقفة حازمة صادقة خالية من العقد لنواجهه بصبر وثبات وننقذ حياتنا مهما تطلب ذلك من تضحيات....
*لا بد عند بحثنا لمجمل قضايانا أن نعود إلي ثوابتنا القيمية والحضارية والتي يمكن اختزالها في القرآن أساسا مستعينين في فك المستغلق من هذه الثوابت ـ إذا شئنا ـ بإنجازات كل الحضارات الإنسانية بدون استثناء دون إن يعيقنا ذلك عن المضي فدما في طريق بناء الحضارة الإسلامية الجديدة مستفيدين مما يمكن الاستفادة منه ودون الارتهان لتلك الإنجازات قديمها وحديثها...
إن أخذ كل هذه الشروط والاعتبارات لمواجهة كل مشكلاتنا الحياتية والحضارية من شأنه أن يعيد لنا القدرة علي الفعل والتحفز أكثر على الإنجاز واختراق الأفاق وبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا وتقدما حتى نكون أهلا لقيادة مسيرة البشرية من جديد.
فمنذ تلك الغزوة بدا المسلمون يفركون عيونهم بعد نوم عميق كان سببا في إخراجهم من حلبة التنافس الحضاري لزمن طويل.. وقد اختلفت المقاربات وتنوعت في كيفية امتلاك منابع القوة والقدرة على الفعل وصنع أحداث التاريخ مرة أخرى كما كان أجدادنا يفعلون منذ انبلاج فجر الإسلام العظيم. فهم قد امتلكوا ناصية الأمم لردح طويل من الزمن وقادوها بالنور الذي انزله الله على امة الإسلام رحمة للبشرية كافة..
لقد أضحت قضية ما صار يعرف ب" الحداثة " قضية محورية مزمنة في تاريخ المجتمع العربي الإسلامي الحديث، ولم تتوضح الحلول المقنعة لجميع الأطراف إلى حد الآن..
وفيما يلي سأحاول تقديم مقاربة لقضية الحداثة الإسلامية عساي أساهم ولو بلبنة في المضي قدما للحسم في هذه القضية الشائكة....
فماذا نقصد بالحداثة تحديدا ؟
ما نعنيه بالحداثة هو: ‹‹ ذلك الصراع المحتد بين الأمم من اجل آن تكون امة هي الأقوى والأغنى والأوربي من بقية الأمم.. وامتلاك القدرة على التغيير الذاتي والتطوير المستمر نحو الأفضل لجميع هياكلها المسيرة، ويحصل أهلها على الأمن من الاعتداءات، مطمئنة مستقرة لا يخاف أهلها ولا يضايقهم شيء.. ".يأتيها رزقها رغدا من كل مكان"...››
وعلى النقيض من ذلك فان الأمة المتخلفة هي تلك التي يعيش أفرادها الجوع والحرمان والفزع والهلع ويشتد ألمهم علي مر الزمان، كما يكثر التطاحن والاجتماعي والصراع بين أفرادها!!...
فما هو السبيل لبناء حداثة إسلامية جديدة ؟
لقد احتاجت الشعوب التي استطاعت تشييد حضارة وقيادة الأمم في مرحلة زمنية معينة وتتوفر على معاني الحداثة التي حددناها آنفا إلى‹‹فكرة إنسانية سامية›› تأخذ بالألباب وتبهر العقول وتثير العواطف الإنسانية وتحرك الحواس الناعسة...فلقد حمل العرب المسلمون فكرة ‹‹إخراج الناس من الظلمات إلي النور››... ورفع الغرب شعار ‹‹تخليص الإنسان من القصور الذي كبلته به الكنيسة بوصايتها عليه والدعوة إلى الحرية والأخوة والمساواة››.. ووعد الاشتراكيون أتباعهم ب‹‹إيجاد جنة أرضية للعمال المسحوقين››...
وهكذا احتاجت هذه الحضارات الثلاث: (الإسلامية والغربية والاشتراكية)إلى:‹‹ فكرة إنسانية سامية›› لتجلب إليها الأنصار وتضمهم إلي صفوفها وتجعلهم مستعدين للنضال والتضحية في سبيل إنزال هذه ‹‹الفكرة السامية›› إلي الواقع المعيش ليحيا في ظلها الناس، بل وكان أنصار هذه الفكرة يغزون أو يفتحون أو يستعمرون الأصقاع باسم هذه ‹‹الفكرة الإنسانية السامية››... ولقد مثلت ‹‹ﺍﻠﺣﺪﺍﺜﺔ›› دائما قطيعة تامة بين عهدين، عهد الظلمات والمظالم والتخلف وعجز الإنسان عن الفعل الايجابي والغيبوبة التاريخية، وبين عهد جديد يتحرر فيه هذا الإنسان من سلطة التراث والتبعية والتقليد الأعمى لهذا الطرف أو ذاك وامتلاك زمام النفس والمبادرة وكسر القيود ـ بمختلف تشكلاتها التي تكبله.... وتمنعه من التحاور مباشرة مع واقعه، واختيار أنجع الطرق والوسائل والتقنيات لتجاوز الموروث سواء أكان هذا الموروث ينتمي إلي حضارة الأجداد أو حضارات الأمم الأخرى، قديما كان أو حديثا..
فالإنسان‹‹الحداثي›› هو ذاك الذي يمتلك القدرة الفائقة علي الاستفادة من الموروث الإنساني في جميع الميادين متحررا من كل ما يعيقه عن الإضافة والإبداع والتجاوز ومزيد بسط سلطته وهيمنته على الكون والحياة والارتقاء بأخيه الإنسان إلى السيادة المطلقة على كل شيء في هذا الكون الشاسع، حتى يتفرغ بعد ذلك لعبادة خالق الكون والحياة، فالإنسان سيد وحيد لهذا الكون والله رب وحيد للإنسان، فلا يخضعن هذا الإنسان لسلطة أخرى مهما كان مصدرها...سوى لسلطة الله خالق الكون والحياة والإنسان... وهو(الإنسان)في كدح متواصل حتى يلتقي بالملا الأعلى.. وقد أفرغ جميع شحناته وطاقاته وقدراته في هذه الأرض التي قبل أن يكون سيدا عليها وعبدا لخالقها وحاملا لأمانة الله في الأرض:« أنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا ».
لقد ابتلي المسلمون قديما وحديثا بمن حول أحداث التاريخ وتجارب المسلمين السابقة إلي صنم / عائق يتعبدون في محرابه مرددا قول العرب القدامى في مواجهتهم للإسلام:‹‹ما سعنا بهذا في آبائنا الأولين›› و‹‹إنا وجدنا آبائنا علي امة وإنا علي أثارهم مقتدون ›› متناسين التزامهم بتوحيد الله والخضوع لربوبيته بما يعني عدم خضوعهم إلاّ لأوامر الله ونواهيه والسير على هدي القرآن العظيم. وقد حالت هذه المواقف المتخلفة بيننا وبين الحداثة الحق والتقدم السليم ورؤية ما يدور حولنا من أحداث متجددة ووقائع حياتية معاصرة تفرض علينا حلولا أخرى غير التي ارتآها أجدادنا لتغير الملابسات ! وكل هذا يتطلب اجتهادا وإعمالا للعقل لاستنباط الحلول الملائمة للمشكلات المعيشية والحياتية التي تواجهنا في حياتنا الدنيا وتعيق بلداننا عن النهوض والتقدم وتحقيق العزة والشهادة على بقية الأمم والشعوب بما نمتلكه من ثوابت الاهية/آيات / بصائر في الكون والإنسان والمجتمع تهبنا القدرة على معرفة السلوك القويم في مختلف دروب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها...
كما ابتلينا بمن اتخذ منجزات الغرب وحضارته صنما/عائقا يعتقل عقلنا ويمنعنا من فهم متطلبات حياتنا وتحقيق سيادتنا على حاضرنا ومستقبلنا. وقد حال كل ذلك بيننا وبين الاعتماد على النفس لتحقيق إنجازاتنا الحضارية الخاصة بنا حتى نكون أهلا لقيادة العالم من جديد.
فما نملكه من ثوابت إلهية في جميع ميادين الحياة يعطينا الحق في قيادة الشعوب – إن نحن استمسكنا بها- والتصدر لتوجيهها نحو الخير والفضيلة حتى نكمل رسالة من ابتعثه الله رحمة للناس كافة..
إن الإبداع الحضاري والابتكار والتقدم مرهون إلي حد كبير بثقة الإنسان في صحة مبادئه واعتقاده في تفوقها على جميع المبادئ الأخرى، وإن ما نتج عن الحضارة الغربية إلي حد الآن من تعميق للهوة بين الفقراء والأغنياء ومن احتجاجات عالمية عن ‹‹الكيل بمكيالين ›› وما نراه ونسمعه من تطاحن رهيب وتقاتل على الحكم والمسؤولية باسم الديمقراطية الغربية.. وعدم استقرار للمجتمعات الغربية نفسها، وانتشار للظلم والعنصرية والحروب المدمرة واستفراد أقلية بالثروات الكونية... كل ذلك يجعل من إقناع الأمة الإسلامية بصحة هذه المبادئ والقيم الغربية أمرا متعذرا إن لم يكن مستحيلا، خاصة وهي الوارثة للقرآن العظيم الذي لم يثبت إلي حد اليوم أنه يحتوي على آية واحدة من شانها أن تعرقل التطور أو تقف في وجه الإبداع الحضاري في مختلف الميادين، لأن هذه الآيات لم تعالج مطلقا متغيرات الحياة البشرية وإنما نصت جميعها علي الثوابت/الحقائق التي تتطابق مع الواقع في الكون والحياة والإنسان وهي معادلات تخترق الزمان والمكان. وقد تركت هذه الآيات حرية الإبداع والاجتهاد في كل المتغيرات المعيشية التي يمكن أن تطرأ على حياة الإنسان بشرط استلهامه هذه الحقائق في اجتهاداته المختلفة. ففي قضية العلم مثلا نجد النص القرآني لم يحدد مطلقا الوسائل والأساليب التي يمكن أن يتبعها الإنسان لتحصيل العلم واختراق الآفاق وتحقيق الاكتشافات لأنها متغيرة بتغير الزمان والمكان وبحسب اجتهاد الإنسان وحاجاته، لكنها أجمعت كلها على ضرورة طلب العلم وجعله مفتاحا لكل ما يفيد الإنسان في دينه ودنياه، وفي السياسة نص القرآن علي وجوب الشورى في جميع ما يهم شؤون المسلمين الخاصة والعامة وحث المسلمين علي العدل واجتناب الهوى والحكم بما انزل الله في كتابه العزيز وعدم التمييز بين الناس:«يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» (سورة المائدة الآية 8 )، وتحريم الفساد في الأرض أو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أو جعل ثروات البلاد -التي هي ملك لله - دولة بين الأغنياء... وطالب باشتراك المسلمين جميعا في تحمل المسؤولية وتكوين: "أمّة" تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتتبع ما أوحى الله به إلى محمد صلى الله عليه وسلم /قدوة كل من أسلم وجهه لله رب العالمين، خلال مرحلتين: مرحلة الدعوة(المرحلة المكية)ومرحلة الدولة(المرحلة المدنية ).. وهكذا دواليك.... ودور الإنسان أن يعتمد هذه الثوابت المعلنة لاستنباط المؤسسات الكفيلة بإنزالها إلي حيز الواقع المعيش حتى ينعم الناس - جميع الناس- برحمة السماء ويأمنوا على حياتهم وأرزاقهم ومكتسبا تهم ويمتلكوا القدرة علي الإضافة والإبداع ويواصلوا أداء رسالتهم في الحياة.. يقول الله عز وجل :‹‹قل لوكان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ›› ﴿الكهف الآية عدد 109 ﴾ فما الذي أصابنا في العصر الحديث حتى صرنا عاجزين عن استنباط ما يلزمنا من حلول لإصلاح معيشتنا انطلاقا من آيات الله التي لا تنفذ معانيها أبدا وصرنا نتخبط خبطا عشواء معرضين عن نور الله!؟
إن اقتحام أ متنا لعصر العولمة باقتدار وجدارة وامتياز، رهين لشروط وقرائن لأبد من استحضارها جميعا حتى نفوز بقصب السبق في جميع الميادين الحضارية:
* إذ لابد من استعمال عقولنا وحواسنا نحن لمواجهة مشكلاتنا الحياتية، واستنباط ما يلائمنا من حلول لمختلف مشكلاتنا بما يتوافق مع مصلحتنا حاضرا ومستقبلا مستندين في ذلك إلى كتاب الله، بدلا من استنساخ الحلول القادمة من وراء البحار وإسقاطها على شعوبنا المسلمة والكف عن استعارة عقول ‹‹الآخرين /الأعداء›› وطرق تفكيرهم ومناهجهم في بحث المشكلات العالقة...
*لا بد من استحضار الواقع المعيش بكل تجلياته وتعقيداته.. ولا فائدة من ستر أمراضنا مهما كان الداء مستحكما بدعوى الحفاظ على أسرارنا وعيوبنا حتى لا يستغلها الأعداء !!؟ إن منطق التستر على الآفات التي تكدر صفو حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية والعلمية وغيرها قد زاد الطين بلة حتى صارت الجراثيم تصول وتجول وترتع حيثما شاءت وتعفن ما قدرت على اقتحامه من حياتنا حتى بدا لنا العلاج متعذرا لشدة ما فتكت بنا الأمراض وألحقته في نفوسنا من أذى وفي أجسادنا من جراح مثخنة. وكل هذا يتطلب وقفة حازمة صادقة خالية من العقد لنواجهه بصبر وثبات وننقذ حياتنا مهما تطلب ذلك من تضحيات....
*لا بد عند بحثنا لمجمل قضايانا أن نعود إلي ثوابتنا القيمية والحضارية والتي يمكن اختزالها في القرآن أساسا مستعينين في فك المستغلق من هذه الثوابت ـ إذا شئنا ـ بإنجازات كل الحضارات الإنسانية بدون استثناء دون إن يعيقنا ذلك عن المضي فدما في طريق بناء الحضارة الإسلامية الجديدة مستفيدين مما يمكن الاستفادة منه ودون الارتهان لتلك الإنجازات قديمها وحديثها...
إن أخذ كل هذه الشروط والاعتبارات لمواجهة كل مشكلاتنا الحياتية والحضارية من شأنه أن يعيد لنا القدرة علي الفعل والتحفز أكثر على الإنجاز واختراق الأفاق وبلوغ ما وراء العرش تطورا وازدهارا وتقدما حتى نكون أهلا لقيادة مسيرة البشرية من جديد.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire